06:01 م calendar الأربعاء 15 أكتوبر 2025 الموافق 23 ربيع الثاني 1447 بتوقيت عدن
الرئيسية عاجل القائمة البحث

يمرّ العام الأول على رحيلك يا صالح، وكأن عقارب الساعة توقّفت عند تلك اللحظة القاسية، لحظة الغياب التي ما زال الزمان عاجزاً عن تضميدها، وما زالت الأماكن تئنّ من وجعها.

رحلت، لكن ظلّك ما زال يحوم في الممرات، وصوتك يتردد بين الجدران، كأنك خرجت للحظة وستعود بعد قليل لتبدأ بطباعة مقدمة جديدة لحلقة من "المشهد الجنوبي".

مقعدك ما زال كما تركته، يشتاق لدفء جسدك، والأوراق التي كنت تقلّبها ما زالت مبعثرة كأنها تنتظر لمستك الأخيرة.. كل شيء في القناة يذكرك، وكل زاوية تتنفس حضورك، كان المشهد الجنوبي ليس مجرد عمل يومي، بل معركة تخوضها بشغف المحارب، وعشق المؤمن بفكرته، فقبل كل حلقة، كنت تملأ المكان حيوية وضجيجاً جميلاً، تتحرك بين المكاتب، تسأل وتدقّق وتراجع وتصرخ أحياناً، لكنك ما كنت تعرف القسوة، فابتسامتك كانت دوماً صكَّ غفران يعيد الطمأنينة إلى الجميع، كنت للجميع أخاً وصديقاً وأباً في الوقت ذاته، نلجأ إليك كما يلجأ التلاميذ إلى معلمهم الأول.

صديقي وأخي العزيز صالح الناخبي، هذه المرة رسالتي مختلفة، لا تحمل تلك النغمة الممزوجة بالمزاح كما عهدتنا، بل تُكتب بصدق، بلا زينة، بلا مواربة، فرحيلك كان قاسياً كفقد البوصلة، في الأيام الأولى اختنقت الأصوات، وجفّت الأقلام، وارتعشت الأيادي، مرت حلقتان من دونك بلا صوت ولا صورة، بلا مقدمة ولا فكرة، كأن الشاشة تأبى أن تتنفس من بعدك، كنا نتهرّب من عيون بعضنا، نكتم الدموع في الممرات، وكلما رأيتُ وليد باكدادة وهو صديقك المقرب على بوابة القناة، فررت إلى الخارج أبحث عن هواءٍ لا يحمل ملامحك، لكن حتى الهواء كان مشبعاً برائحتك.

ومع ذلك، شددنا على الجرح كما أوصيتنا، تذكّرنا وصيتك التي قلتها بيقين المحارب: "المشهد الجنوبي خط أحمر، المشهد سيستمر بوجود الناخبي أو بدونه... أكملوا المشوار، ولا تنكسروا"، كنا نسمعها كأمرٍ مقدس، فكتبنا ونحن نكتم الدمع، وأكملنا الطريق رغم الفقد، حتى مرّ عامٌ كامل منذ تلك اللحظة التي ترجّلت فيها عن صهوة آخر محطة لك “المشهد الجنوبي” بعد 663  حلقة من العطاء والكبرياء.

اليوم، أستميحك العذر يا صالح، فالراية التي تركتها لم تكن خفيفة، ولم يكن حملها هيّناً، لولا مؤازرة إخوتي " وليد باكدادة Walid Bakadada، وقيادة القطاع ممثلة بالأستاذ عبدالعزيز الشيخ ونائبه محمد العمودي، وكل الزملاء" في مختلف أقسام القناة ما كنتُ لأقوى على مواصلة الدرب، وحمل الراية لكنهم واجهوني بالقول "من غيرك سيحمل الراية؟، فكنت أراهم يحملونك معي في كل خطوة، في كل نصّ، في كل فكرة، ومنذُ رحيلك، أصبح كل نصّ أكتبه امتحاناً أمام روحك الطاهرة، أكتب ثم أمزّق، ثم أعود لأكتب من جديد بعد أن أسمع صدى صوتك في أعماقي يقول: معنا تصعيد.. الجماعة يتربصوا بالجنوب.. سقفنا السماء.. لا خطوط حمراء غير الجنوب وقيادته السياسية وقواته المسلحة، "نحن قدّمنا شهداء وتضحيات كبيرة، وهي الكلمات التي أصبحت نشيداً داخلياً يوقظ عزيمتي كلما خذلتني اللحظة، ويذكّرني أنك كنت مدرسة في الثبات لا مجرد إعلامي أو كاتب.

اليوم، بعد عامٍ على غيابك، ما زال رحيلك جرحاً مفتوحاً لا يندمل، وما زالت روحك ترفرف في كل زاوية من زوايا القناة، في الممرات، وفي صدى الأصوات خلف الكواليس، وفي كل عنوان يضيء على الشاشة، كل مقدمة تُقرأ تحمل شيئاً منك، وكل ضيف يأتي إلى القناة يذكرك قبل أن يصل للأستوديو يقولون: هنا كان يجلس العم صالح.. هنا كان يرحّب بنا ويسأل عن التفاصيل، وحين أكتب مقدمة متماسكة في "المشهد الجنوبي"، يهمس أحد الزملاء بابتسامة مبللة بالحنين، اليوم العم صالح عاد يكتب من جديد" حينها فقط، أشعر أني أرضيتك، وكأنك تبتسم من بعيد راضياً عن النص، عن الفكرة، عن الإصرار على أن تظل الكلمة موقفاً.

لكن في الوقت نفسه، يداهمني شعورٌ ثقيل أن الراية التي تركتها لا يستطيع أحد أن يحملها كاملة، وأن مقعدك لا يليق إلا بك، فقد تركت فراغاً يشبه اتساعك، ووصيةً أكبر منّا جميعاً، ومع ذلك نحاول كل يوم أن نكون على قدرها، لأننا نعرف أن "المشهد الجنوبي" لم يكن برنامجاً، بل كان أنت.. وكان روحك التي لا تغيب.

لقد عشتَ يا صديقي مناضلاً حرّاً، وفيّاً لقضيتك، نقيّاً كمطر الجنوب، صادقاً كقَسَم لا يُنكث، كنت كبيراً في صمتك كما كنت في حضورك، وكنتُ كلما تحدثتُ إليك بين الحين والآخر أبحث في ملامحك عن بعض من تاريخك، عن بصيصٍ من تلك المواقف التي صنعت مجدك وصاغت وجدان وطن بأسره، كنت أرجو أن تفتح لي باب الحكاية لتحدّثني عن سيرتك العطرة، تلك التي لا يعرفها إلا رفاقك القلائل في زمنٍ كان فيه الحديث جريمة، والحق صرخة تختنق في الحناجر.

كنتَ الحاضر الدائم خلف الأضواء، على رأس أول مكوّن جنوبي مناهض للاحتلال، وقلمك الحرّ كان من أوائل الأقلام التي أيقظت الوعي الجنوبي، وعبّرت عن الرفض والكرامة بلغة لا تُشترى ولا تهادون ولا تعرف المراوغة، كنت تسعى في الظل لتأمين تمويل الكفاح المسلّح، ثم تعود إلى الميدان مع طليعة الرجال الذين اختاروا المواجهة لا الركوع، عزفت بقلمك على كل أوتار الحياة، سياسياً، أديباً، ساخراً، شاعراً، مقاتلاً بالكلمة والرصاصة معاً.

وفي غزو الحوثي وصالح للجنوب كنت في الصفوف الأولى، تقاتل بكل شجاعة واستبسال في صفوف المقاومة الجنوبية في عدن، ولم تبحث بعدها عن منصب أو مكافأة بل عدت إلى محراب الكلمة، فارساً في بلاط صاحبة الجلالة، تكتب التقارير السياسة والمقالات اللاذعة، وتنسج الروايات والأفلام والبرامج والمسابقات بروح وطنية متمرّدة لا تُروّض، لتسجل بذلك حضور استثنائي، يملأ الفضاء ضوءاً وصوتاً وصدقاً، حضوراً لا يستطيع أحد أن يشغله سواك.

ورغم كل ذلك، كنت زاهداً في الحديث عن نفسك، تكتفي بكلمات قليلة يرافقها ابتسامتك التي تشبه الغفران، وكأنك تقول: "ما فعلته كان قناعة، وما آمنتُ به كان طريق".. وبعد رحيلك فقط، عرف الناس كم كنت كبيراً، وكم كنا صغاراً دونك.. فبعد الرحيل الموجع خيّم الحزن على الوجدان، وانكشفت معه سيرة رجل عاش بيننا بصمت جميل وبصمة لا تُمحى، وسيرةٍ تليق بالخلود.

اليوم، ونحن في الذكرى السنوية الأولى لرحيلك، وكأن القدر قد اختار أن يكون يوم الرابع عشر من أكتوبر لوفاتك ليضع لنا منبهاً يبقيك خالداً في الذاكرة كهذه الثورة العظيمة وأنت كذلك.. اليوم تتزاحم في ذاكرتي الكثير من المواقف والمشاهد والروايات التي خلّدتها بصدقك، لكن الحديث عنك لا ينتهي، ومع ذلك، أختم هذا النص والقلب مثقل، لأقول، إنك أنت صالح الناخبي، صالح اليافعي، ساخروف، أبو نصار، عاشق نوره، والمعروف لا يُعرّف، وأنت الحاضر في رسائل البرق والمطر، وآخر النساء، في عناوين الصحف، وشاشات التلفزيون، وأغلفة الكتب، وفي مواقع البطولة والعز والشرف، وقبل كل ذلك، الحاضر في قلوب محبيك وأصدقائك.

أخي وصديقي أبا عبدالرحمن، رحلت جسداً وبقيت روحاً تسكن الحروف، وترتّل الكبرياء في وجه الانكسار.. تركت لنا إرثاً من الصمود والكلمة الحرة، كلماتك ما زالت كالرصاص في وجه الطغيان، وكالجبال شموخاً في وجه العواصف.. فسلام عليك في مرقدك، وسلام على روحك التي لا تغيب، وسلامٌ على العهد الذي نجددّه اليوم أن نحمل الراية ونمضي في الطريق الصعب - الطريق الذي لا يليق إلا بالناخبي ومن يشبهونه في النقاء والثبات.

علي عسكر الشعيبي

تم نسخ الرابط